سورة النمل - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


وقولِه تعالى {وَحُشِرَ لسليمان جُنُودُهُ} جُمع له عساكرُه {مِنَ الجن والإنس والطير} بمباشرة مخاطبيِه فإنَّهم كانوا رؤساءَ مملكتِه وعظماءَ دولتهِ من الثَّقلينِ وغيرِهم، بتعميم النَّاس للكلِّ تغليباً. وتقديمُ الجنِّ على الإنسِ في البيانِ للمسارعةِ إلى الإيذانِ بكمالِ قوَّة مُلكِه وعزَّةِ سُلطانِه من أول الأمرِ لما أنَّ الجنَّ طائفةٌ عاتيةٌ وقبيلةٌ طاغيةٌ ماردةٌ بعيدةٌ من الحشرِ والتسخيرِ. {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يُحبس أوائلُهم على أواخِرهم أي يُوقف سُلافُ العسكرِ حتى يلحقَهم التَّوالي فيكونُوا مجتمعينَ لا يختلفُ منهم أحدٌ وذلك للكثرة العظيمةِ. ويجوزُ أن يكونَ ذلك لترتيب الصُّفوفِ كما هم المُعتاد في العساكرِ، وفيه إشعارٌ بكمال مسارعتِهم إلى السَّير. وتخصيصُ حسبِ أوائلِهم بالذكر دون سوقِ أواخرهم مع أنَّ التلاحقَ يحصلُ بذلكَ أيضاً لما أنَّ أواخرَهم غيرُ قادرينَ على ما يقدرُ عليه أوائلُهم من السيرِ السريعِ، وهذا إذَا لم يكُن سيرُهم بتسييرِ الرِّيح في الجوِّ. رُوي أنَّ معسكرَه عليهِ الصَّلاة والسَّلام كان مائةَ فرسخٍ في مائةٍ، خمسةٌ وعشرونَ للجنِّ وخمسةٌ وعشرونَ للإنس وخمسةٌ وعشروَن للطيرِ وخمسةٌ وعشرونَ للوحشِ. وكان له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ألف بيتٍ من قواريرَ على الخشبِ ثلاثمائةُ منكوحةٍ وسبعمائةُ سريةٍ، وقد نسجتْ له الجنُّ بساطاً من ذهبٍ وإِبْرِيْسَمَ فرسخاً في فرسخٍ وكان يُوضعُ منبرُه في وسطِه وهو من ذهبٍ فيقعدُ عليه وحوله ستمائة ألفِ كرسيَ من ذهبٍ وفضةٍ فيقعدُ الأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ على كَرَاسي الذهبِ والعلماءُ على كَرَاسي الفضَّةِ وحولَهم النَّاسُ وحول النَّاسِ الجنُّ والشياطينُ وتظله الطيرُ بأجنحتِها حتَّى لا تقعَ عليه الشمسُ وترفع ريحُ الصَّبا البساطَ فتسيرُ به مسيرةَ شهرٍ. ويُروى أنَّه كان يأمُر الريحَ العاصفَ تحملُه ويأمُر الرُّخاء تسيره فأَوحى الله تعالى إليهِ وهو يسيرُ بين السماءِ والأرضِ إنَّي قد زدتُ في ملككَ لا يتكلم أحدٌ بشيءٍ إلا ألقته الريحُ في سمعِك فيُحكى أنه مرَّ بحرَّاثٍ فقال: لقد أُوتيَ آلُ داودَ ملكاً عظيماً فألقته الريحُ في أذنِه فنزلَ ومشى إلى الحرَّاثِ وقال: إنَّما مشيتُ إليكَ لئلاَّ تتمنَّى ما لا تقدرُ عليه، ثمَّ قال لتسبيحةٌ واحدةٌ يقبلها الله تعالى خيرٌ مما أُوتي آلُ داودَ.


{حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِى النمل} حتَّى هي التي يُيتدأُ بها الكلامُ ومع ذلك هي غايةٌ لما قبلها كالتي في قولِه تعالى: {حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل} الآيةَ وهي ههنا غايةٌ لما يُنبىء عنه قولُه تعالى فهُم يُوزعونَ من السير كأنَّه قيلَ: فسارُوا حتَّى إذا أتَوا إلخ ووادي النَّمل وادٍ بالشامِ كثيرُ النَّمل على ما قالَه مقاتلٌ رضي الله عنه، وبالطَّائفِ على ما قالَه كعبٌ رضي الله عنه، وقيلَ هو وادٍ تسكنُه الجنُّ والنملُ مراكبُهم. وتعديةُ الفعلِ إليه بكلمةِ عَلى إمَّا لأنَّ إتيانَهم كان من فوق، وإمَّا لأنَّ المرادَ بالإتيانِ عليه قطعُه، من قولِهم أتَى على الشيءِ إذا أنفَدَه وبلغَ آخرَهُ، ولعلَّهم أرادُوا أنْ ينزلُوا عند مُنتهى الوادي إذْ حينئذٍ يخافُهم ما في الأرضِ لا عند سيرِهم في الهواءِ. وقولُه تعالى {قَالَتْ نَمْلَةٌ} جوابُ إذا كأنَّها لما رأتهُم متوجهينَ إلى الوادي فرَّتْ منهم فصاحتْ صيحةً تنبهتْ بها ما بحضرتِها من النملِ لمرادِها فتبعها في الفرارِ فُشبِّه ذلك بمخاطبةِ العُقلاءِ ومناصحتِهم فأُجروا مُجراهم، جُعلتْ هي قائلةً وما عداها من النملِ مقولٌ لهم حيثُ قيل: {نَمْلَةٌ يأَيُّهَا النمل ادخلوا مساكنكم} مع أنَّه لا يمتنعُ أنْ يخلقَ الله تعالى فيها النُّطقَ وفيما عداها العقلَ والفهمَ. وقرئ: {نَمُلة يا أيُّها النَّمُل} بضمِّ الميمِ، وهو الأصلُ كالرجُل، وتسكينُ الميمِ تخفيفٌ منه كالسَّبْعِ في السبُع. وقرئ بضمِّ النونِ والميمِ. قيل: كانتْ نملةً عرجاءَ تمشي وهي تتكاوسُ فنادتْ بما قالتْ فسمعَ سليمانُ عليه السَّلام كلامَها من ثلاثةِ أميالٍ وقيل: كان اسمُها طاخيةً. وقرئ: {مسكنَكم}. وقولُه تعالى: {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وَجُنُودُهُ} نهيٌ في الحقيقيةِ للنَّملِ عن التأخرِ في دخولِ مساكنِهم وإنْ كانَ بحسبِ الظَّاهر نهياً له عليه الصَّلاة والسَّلام ولجنودِه عن الحطْمِ كقولِهم: لا أرينَّك هَهُنا. فهُو استئنافٌ أو بدلٌ من الأمرِ، كقولِ مَنْ قالَ:
فقلتُ له ارحلْ لا تُقيمنّ عندنا ***
لا جوابَ له فإنَّ النُّون لا تدخلُه في السَّعة. وقرئ: {لا يَحَطَمنكم} بفتحِ الحاءِ وكسرِها، وأصلُه لا يحتطمنَّكم. وقولُه تعالى: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} حالٌ من فاعلِ يحطمنَّكم مفيدةٌ لتقييدِ الحطمِ بحالِ عدمِ شعورِهم بمكانِهم حتَّى لو شعروا بذلك لم يحطَّمُوا، وأرادتْ بذلكَ الإيذانَ بأنَّها عارفةٌ بشؤونِ سليمانَ وسائرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام من عصمتِهم عن الظُّلم والإيذاءِ، وقيل: هو استئنافٌ أي فهمَ سليمانُ ما قالتْهُ والقومُ لا يشعرونَ بذلكَ.


{فَتَبَسَّمَ ضاحكا مّن قَوْلِهَا} تعجباً من حذرها واهتدائِها إلى تدبير مصالحِها ومصالحِ بني نوعِها وسروراً بشهرة حالِه وحالِ جنودِه في بابِ التَّقوى والشَّفقةِ فيما بين أَصنافِ المخلوقاتِ التي هي أبعدُها من إدراك أمثالِ هذه الأمورِ وابتهاجاً بما خصَّه الله تعالى به من إدراك همسِها وفهمِ مُرادِها. رُوي أنَّها أحسَّتْ بصوتِ الجنودِ ولا تعلمُ أنَّهم في الهواءِ فأمرَ سليمانُ عليه السَّلام الريحَ فوقفتْ لئلاَّ يذعَرنَ حتَّى دخلن مساكنهنَّ. {وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} أي اجعلني أزعُ شكرَ نعمتكَ عندي واكفَّه وأرتبطُه بحيثُ لا ينفلتُ عنِّي حتَّى لا أنفكُّ عن شكرِك أصلاً. وقرئ بفتحِ ياءِ أَوزعني. {التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ} أدرك فيه ذكرهما تكثيراً للنعمة فإنَّ الإنعامَ عليهما إنعامٌ عليه مستوجبٌ للشُّكرِ. {وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه} إتماماً للشُّكرِ واستدامةً للنِّعمةِ {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين} في جُملتهم الجنَّةَ التي هي دارُ الصالحينَ.
{وَتَفَقَّدَ الطير} أي تعرَّف أحوالَ الطيرِ فلم يرَ الهُدهدَ فيما بينها. {فَقَالَ مَالِىَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين} كأنَّه قالَ أولاً: ما ليَ لا أراه لساترٍ سترَه أو لسببٍ آخرَ ثمَّ بدا له أنَّه غائبٌ فأضربَ عنْه فأخذَ يقولُ أهو غائبٌ {لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} قيلَ: كان تعذيبُه للطيرِ بنتفِ ريشِه وتشميسِه، وقيلَ: بجعلِه مع ضدِّه في قفضٍ، وقيل: بالتفريق بينه وبين إلفِه. {أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ} ليعتبرَ به أبناءُ جنسهِ {أَوْ لَيَأْتِيَنّى بسلطان مُّبِينٍ} بحجَّةٍ تبينُ عذرَهُ. والحَلِفُ في الحقيقةِ على أحدِ الأَولينِ على تقديرِ عدمِ الثَّالث. وقرئ: {ليأتينَّنِي} بنونينِ أولاهُما مفتوحةٌ مشددةٌ. قيلَ: إنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما أتمَّ بيتَ المقدسِ تجهَّز للحجِّ بحشرهِ فَوَافى الحرِمَ وأقامَ به ما شاء، وكان يقرِّب كلَّ يومٍ طولَ مقامِه خمسةَ آلافِ ناقةٍ وخمسةَ آلافِ بقرةٍ وعشرينَ ألفَ شاةٍ ثم عزمَ على السير إلى اليمنِ فخرج من مكةَ صباحاً يؤمُّ سُهَيلاً فوافى صنعاءَ وقتَ الزَّوالِ وذلكَ مسيرةَ شهرٍ فرأى أرضاً حسناءَ أعجبتْهُ خضرتُها فنزل ليتغدَّى ويصلِّي فلم يجد الماءَ وكان الهدهدُ قناقه وكان يَرَى الماءَ من تحتِ الأرضِ كما يَرَى الماءَ في الزُّجاجةِ فيجيءُ الشياطينُ فيسلخونَها كما يُسلخُ الأهابُ ويستخرجون الماءَ فتفقَّده لذلك وقد كانَ حين نزلَ سلميانُ عليه السلام حلَّق الهدهُد فرأى هدهداً واقعاً فانحطَّ إليه فوصفَ له ملكَ سليمانَ عليه السَّلام وما سُخَّر له عن كلِّ شيءٍ وذكر له صاحبُه ملكَ بلقيسَ وأنَّ تحت يدِها اثني عشرَ ألفَ قائدٍ تحت يد كلِّ قائدٍ مائةُ ألفٍ. وذهبَ معه لينظرَ فما رجع إلا بعدَ العصرِ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8